فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}
نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلًا من قريش يُطعم واحد منهم كلَّ يوم عشْرَ جُزُرٍ، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحُد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقيةً أو في أصحاب العِير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم: أعينوا بهذا المالِ على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرَنا منه ففعلوا والمرادُ بسبيل الله دينُه واتباعُ رسوله {فَسَيُنفِقُونَهَا} بتمامها، ولعل الأول إخبارٌ عن إنفاقهم في تلك الحالِ وهو إنفاقُ يوم بدرٍ، والثاني إخبارٌ عن إنفاقهم فيما يُستقبل وهو إنفاقُ يوم أحدٍ، ويحتمل أن يُرادَ بهما واحدٌ على مساق الأول لبيان الغرضِ من الانفاق، ومساق الثاني لبيان عاقبتِه وأنه لم يقع بعد {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندمًا وغمًا لفواتها من غير حصول المقصودِ، جُعل ذاتُها حسرة وهي عاقبةُ إنفاقها مبالغةً {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخرَ الأمر وإن كان الحربُ بينهم سجالًا قبل ذلك {والذين كَفَرُواْ} أي تموا على الكفر وأصروا عليه {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي يساقون لا إلى غيرها. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}
نزلت على ما روى عن الكلبي والضحاك ومقاتل في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلًا أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وبنية ومنية ابنا الحجاج وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير.
وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدًا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا، وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنها نزلت في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش ليقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم سوى من استجاشهم من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالًا من الذهب، وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبي وهب:
فجئنا إلى موج من البحر وسطهم ** أحابيش منهم حاسر ومقنع

ثلاثة آلاف ونحن عصابة ** ثلاث مئين إن كثرنا فأربع

وسبيل الله طريقه، والمراد به دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واللام في {لِيَصُدُّواْ} لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية، والموصول اسم إن وخبرها على ما قال العلامة الطيبي في قوله تعالى: {فَسَيُنفِقُونَهَا} وينفقون إما حال أو بدل من كفروا أو عطف بيان، واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10] فهو جزاء بحسب المعنى، وفي تكرير الإنفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الانفاق كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] وقولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، والكلام مشعر بالتوبيخ على الانفاق والإنكار عليه، قيل: وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم لبيان غرض الانفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور، وقيل: في دفعه أيضًا: المراد من الأول: الإنفاق في بدر.
{وينفقون} لحكاية الحال الماضية، وهو خبر إن، ومن الثاني: الإنفاق في أحد، والاستقبال على حاله، والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سببًا لإنفاق الثانية، أتى بالفاء لابتنائه عليه، وذهب القطب إلى هذا الإعراب أيضًا على تقدير دفع التكرار باختلاف الغرضين، وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا {رزقناهم يُنفِقُونَ} على الحال فلابد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الاستقبال اتحدا، كأنه قيل: إن الذين كفروا يريدون أن ينفقون أموالهم فسينفقونها، وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه كما ترى، وقوله سبحانه: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} عطف على ما قبله، والتراخي زماني، والحسرة الندم والتأسف، وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندمًا وتأسفًا لفواتها من غير حصول المطلوب، وهذا في بدر ظاهر.
وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج بعد ذلك فكان كالفائت، وضمير تكون للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة، فالكلام على تقدير مضافين أو ارتكاب تجوز في الإسناد.
وقال العلامة الثاني: إنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة إنفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء، ومن الناس من قال: إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الانفاق مبالغة فافهم {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} أي في مواطن أخر بعد ذلك {والذين كَفَرُواْ} أي الذي أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي يساقون لا إلى غيرها. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}
نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عني بها المطعمون منهم يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلًا من قريش، يطعم كل واحد منهم، كل يوم عشرة جزر.
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان، ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى محمد بن إسحاق عن الزهري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا، ففعلوا. قال: ففيهم- كما ذكر عن ابن عباس- أنزلت الآية. ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك.
واللام في ليصدوا، لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل، لأن غرضهم الصدر عما هو سبيل الله بحسب الواقع، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم.
وسبيل الله طريقه وهو دينه، واتباع رسوله، ولما تضمن الموصول معنى الشرط، والخبر بمنزلة الجزاء، وهو: {فَسَيُنفِقُونَهَا} اقترن بالفاء {ينفقون} إما حال، أو بدل من: {كفروا} وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار، التوبيخ على الإنفاق، والإنكار عليه، كما في قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه}.
وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء، الدلالة على كمال سوء الإنفاق، كما في قوله: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}. وقولهم: من أدرك الصَّمَّان فقد أدرك المرعى، والمعنى: الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله، والصدّ عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، سيعلمون عن قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق، وانقلابه إلى أشد الخسران، من القتل والأسر في الدنيا، والنكال في العقبى: قال المتنبي:
إذا الجودُ لم يُرزق خلاصًا من الأذى ** فلا الحمد مكسوبًا ولا المالُ باقيًا

والأذى هنا المنّ وفي جعل ذات الأموال تصير: {حسرة} أي: ندمًا وتأسفًا- وهي عاقبة أمرها- مبالغة.
والمراد بالغلبة في قوله: {ثم يغلبون} الغلبة التي استقر عليها الأمر، وإن كانت الحرب بينهم سجالًا قبل ذلك. فإن قلت: غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم، بالزمان، فلم أخرت بالذكر؟
قلت: المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك. كذا في العناية.

.تنبيه [على خطر المعاونة على معصية الله تعالى]:

قال بعضهم ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين.
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}.
لما ذُكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم، عُقب بذكر محاولتهم استيصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني بـ {سبيل الله} وجعلت الجملة مستأنفة، غير معطوفة، اهتمامًا بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام، وأتى بصيغة المضارع في {ينفقون} للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العُدد لغزو المسلمين، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه.
وهذا الإنفاق: أنهم كانوا يطعمون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم، وكان المطعمون اثني عشر رجلًا وهم أبو جهل، وأمية بن خلف، والعباس بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعمية بن عدي بن نوفل، وأبو البَخْترِي والعاصي بن هاشم، وحكيم بن حزام، والنضر بن الحارث، ونُبَيْه بنُ حجاج السهمي، وأخوه مُنَبه، وسهيل بن عَمرو العامري، كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر.
وهذا الإنفاق وقع يوم بدر، وقد مضى، فالتعبير عنه بصيغة المضارع لاستحضار حالة الإنفاق وأنها حالة عجيبة في وفرة النفقات.
وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة، وإلاّ فإنهم ينفقون بعض أموالهم.
والفاء في {فسينفقونها} تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الانفاق في المستقبل، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الانفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين.
وضمير {ينفقونها} راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفَقة بل الأموال الباقية أو بما يكتسبونه.
و{ثم} للتراخي الحقيقي والرتبي، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم، والحسرة شدة الندامة والتلهفُ على ما فات، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها.
ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر، لأن الأموال سبب التَحَسر لا سبب الحسرة نفسها.
وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائِل فيما أنفقوا لأجله، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصُل له المقصود من إنفاقه.
ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلِبون، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يومَ أُحُد: استأجر أبو سفيان ألفين من الأحابيش لقتال المسلمين يوم أُحُد.
والأحابيش: فِرَق من كنانة تجمعت من أفذاذ شتى وحالفوا قريشًا وسكنوا حول مكة سمّو أحابيش جمع أحبوش وهو الجماعة أي الجماعات فكان ما أحرزوه من النصر كِفاءً لنصر يوم بدر، بل كان نصر يوم بدر أعظمَ.
ولذلك اقتنع أبو سيفيان يوم أُحُد أن يقول يوم بيوم بدر والحرب سجال وكان يحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل وأن أبا بكر وعمر قتلا فخاب في حسابه، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة ثم انصرفوا بلا طائِل، فكان إنفاقهم حسرة عليهم.
وقوله: {ثم يُغلبون} ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم، فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائِل تُوعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضًا يومَ بدر، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاععِ دابر أمرهم، وهذا كالإنذار في قوله: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلومًا بالسياق فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لَقاحًا.
و{ثم} للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها.
كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى حهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجًا على خلاف مقتضى الظاهر، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بإصرح عبارة، وهذا كقول عويف القوافي:
اللؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالِده ** واللؤْم أكرمُ من وَبْر ومَا وَلدَا

لقصد زيادة تشنيع وَبْرٍ المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيهًا بليغًا.
وعرّفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر، فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم. اهـ.